رمضان شهر القرآن
الحمد لله الذي خص بالفضل شهر رمضان على سائر الأيام، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام، والصلاة والسلام على سيد الأنام خير من صلى وصام، وعلى آله وصحبه الكرام، وبعدُ:
فبين الأيام والشهور تفاوت في الفضل بحسب ما جعل فيها من مزايا وما أودع فيها من بركات ونعمات، ولرمضان مزية على غيره من الشهور؛ لما استجمع من الفضائل وما حواه من نفحات، مما يستشعر به المسلم مكانة رمضان ومنزلته بين شهور العام فيخصه بمزيد من الطاعة وألوان القُرُبات، وفي مقدمة ذلك الصيام والقيام وقراءة القرآن طلبًا للمغفرة والرضوان، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه].
وإن من فضائل رمضان ومزاياه أن الله عز وجل جعله مستودعًا لنزول القرآن العظيم، قال تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ » [البقرة:185]، وقال تعالى: « إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ » [القدر: 1 - 3].
فضل القرآن ومنزلة حامله
قال الله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ » [فاطر:29]، وتلاوة القرآن على نوعين؛ تلاوة حكمية، وهي تصديق أخباره وتنفيذ أحكامه وفعل أوامره واجتناب نواهيه.
والنوع الثاني: تلاوة لفظية وهي قراءته، وقد جاءت النصوص في فضلها كثيرة، وهذا من النصيحة لكتاب الله عز وجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتاب ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [مسلم 55].
قال النووي رحمه الله: «قال العلماء رحمهم الله: النصيحة لكتاب الله تعالى؛ هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله الخلق بأسرهم، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذبُّ عنه لتأويل المحرفين، وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتناء بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم بمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرناه من نصيحته».
والقرآن هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، من عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، لا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تزيغ به الأهواء، ومن تركه واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.
والقرآن هو كلام الله تعالى أنزله على رسوله وتعبّدنا بتلاوته، وجعل الخيرية في تعلمه وتعليمه، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». [رواه البخاري].
وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو» [متفق عليه].
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» [رواه مسلم].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خيرٌ له من ناقتين وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاث، وأربعٌ خيرٌ له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» [رواه مسلم: 803].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» [رواه مسلم].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران». [متفق عليه].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين». [رواه مسلم 817].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار». [متفق عليه].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وقارئ القرآن يترجح على غيره في الدنيا والآخرة وعند الوضع في القبر، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى». [رواه مسلم].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما ضاقت القبور بالموتى يوم أُحد يسأل: أيهم أكثر أخذًا للقرآن، فإذا أشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد، ويوم القيامة يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. [رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه الألباني].
حامل القرآن له شأن آخر
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون.
وعن الفضيل قال: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيمًا لحق القرآن.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنه قرأه من الليل». [رواه مسلم].
من آداب التلاوة
ينبغي أن يحرص القارئ لكتاب الله على تنظيف فمه بالسواك، ويستحب أن يقرأ القرآن على طهارة تامة، ولا يمس القرآن إلا طاهرًا، ويجوز للحائض والنفساء أن تقرأ القرآن دون أن تمس المصحف، أما الجنب فلا يجوز له القراءة؛ لأن بمقدوره رفع الجنابة في الحال، أما الحائض فليست كذلك.
ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف ولو استقبل القبلة لكان خيرًا، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إني لأقرأ حزبي وأنا مضطجعة على السرير، وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن. [متفق عليه].
وينبغي له أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم إذا أراد الشروع في القراءة، قال تعالى: « فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ » [النحل:98]، ويقرأ بهيئة الخشوع والتدبر: « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا » [محمد:24]، وقد بات جماعة من السلف كل منهم يتلو آية واحدة يتدبرها ويرددها إلى الصباح.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالجماعة فقرأ سورة فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته. فالبكاء مستحب مع القراءة وبعدها.
وينبغي أن يرتل قراءته، وأن يخرج الحروف من مخارجها الصحيحة، قال الله تعالى: « أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا » [المزمل:4]، ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزّه ربه سبحانه.
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ ترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل. [رواه مسلم].
ويستحب طلب التلاوة من قارئ حَسن الصوت، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ذَكِّرنا ربنا.
ويستحب تحسين الصوت بالتلاوة والاجتماع على قراءة القرآن، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود». [متفق عليه].
والمزمار هو الصوت الحسن ويحرم تفسير القرآن بغير علم، كما يحرم المراء والجدال فيه بغير حق.
تلاوة القرآن في رمضان
وينبغي لكل مسلم في هذا الشهر المبارك أن يُقبل على مائدة القرآن، وأن يُكثر من تلاوته، فإن للتلاوة فيه مزية خاصة، وذلك لشرف الزمان، فقد كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل سنةٍ مرة، فلما كان العام الذي تُوفي فيه عرضه مرتين. [رواه البخاري، ومسلم، واللفظ له].
وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وفي غيرها، وكان الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف.
وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليالٍ دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يختم في رمضان في كل ثلاث ليالٍ، وفي العشر الأواخر في كل ليلتين، وكان الأسود رحمه الله يقرأ القرآن كله في ليلتين في جميع الشهر، وقال الحميدي: كان الشافعي يختم كل يوم ختمة، وعن أبي حنيفة نحوه.
قال ابن رجب رحمه الله: «وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصًا في الليالي التي يُطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد، وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم». [لطائف المعارف: 191، 192].
وجوب تعظيم القرآن الكريم
وقد أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته، وأجمعوا على أن من جحد منه حرفًا مما أُجمع عليه أو زاد حرفًا لم يقرأ به أحدٌ وهو عالم بذلك فهو كافر، وعلى المسلمين أن يسعوا في تحكيم كتاب ربهم في حياتهم الخاصة والعامة، في سياستهم واقتصادهم واجتماعهم، وأخلاقهم، وحربهم وسلمهم، وأن ننتهز فرصة الشهر المبارك في إقامة حدوده وحروفه، فنُحِلّ حلاله، ونُحرِّم حرامه، ونقف عند محكمه، ونؤمن بمتشابهه، ونتلوه حق تلاوته، فالقرآن لم يُنزل لعمل الأحجبة ولا ليقرأ على الموتى، ولكن « لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ َ» [يس:70].
والحمد لله رب العالمين.
http://www.altawhed.com/Detail.asp?InSectionID=1632&InNewsItemID=397103