عداد سامح ابو الروس
غلاف مجلة التوحيد العدد 113
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلقد هبت نسائم البشارات؛ بقدوم شهر التمكين والانتصارات، ففي رمضان من السنة الثانية للهجرة كان يوم الفرقان؛ حيث غزوة بدر الكبرى التي أرست أكبر دعائم التمكين للإسلام ودولته في الأرض، وخَطَّتْ أكبر فصول التحول في صفحات التاريخ؛ قال تعالى « وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (آل عمران: 321).
وبعدها كان يوم المكرمة يوم أن جاء الحق وزهق الباطل، إنه يوم فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وبعدها مر التاريخ على رمضان كثيرًا، ففيه كانت بدايات فتح الأندلس، ثم مرت أيامه المباركة لتشهد معركة عين جالوت، وغيرها الكثير حتى وصلت انتصارات رمضان إلى سيناء، يوم زُلزلت الأرض تحت أقدام اليهود في حرب العاشر من رمضان.
«وربك يخلق ما يشاء ويختار»
لم يكن اختيار شهر رمضان لتقع فيه هذه الأحداث الكبيرة التي مكَّن الله بها لدينه في الأرض، وبدَّل من بعد عسر يسرًا، لم يكن قط اختيارًا خاليًا من الحكمة والتقدير فلقد قال تعالى: « وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ » [القمر: 49]؛ وإنما كان وراء هذا الاختيار توجيه رباني للدلالة على أثر هذا الشهر الكريم في إحداث التحولات الكبرى في حياة الأمة.
إنه شهر التمكين والنصر المبين، وإذا أراد الله عز وجل شيئاً هيّأ أسبابه؛ فها نحن وبعد طول انتظار يأتينا شهر التمكين ليزور الأمة أخيراً، ويبسط رداء العبادة على أرضٍ قد مهّدت له بفضل الله تعالى، فكيف يمكننا الاستفادة من هذه النفحة الرمضانية الربانية في سبيل تحقيق التمكين لدين الله تبارك وتعالى في الأرض؟ وما هي المخاطر التي يجب علينا أن نحذرها بل ونتخطاها؟ وما هو دورنا الأهم في هذه الأيام المعدودات؟ وكيف نجمع بين مواجهة خصوم الإسلام والرد على شبهاتهم، وبين تفريغ النفس والقلب للعبادات الرمضانية المكثفة؟ هذا ما نحاول إيجازه في النقاط التالية، فنقول وبالله تعالى التوفيق.
ليطهركم به
في زحمة الأحداث والمعارك الجدلية الساخنة يأتينا رمضان فيبرز وسط هذا الركام واحة ندية يستريح فيها المحارب بعد أن أنهكته صولات المعارك وجولاتها؛ فرمضان هذا العام ليس كمثله في سابق الأعوام، ونحن فعلاً في أشد الحاجة إلى مثل هذه النفحات الإيمانية؛ لتربط على قلوبنا ولتَثبت بها الأقدام، ولنجمع ما تناثر من القوى ونشدّ ما تراخى من العزائم والهمم، نحتاجه لنخلو بأرواحنا ونطهّرها من الشبهات التي تزاحمت علينا، نحتاجه لنعتكف فيه فتصفو نفوسنا وتتصافى علاقاتنا مع بعضنا لنخرج منه صفًّا واحدًا من المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بقوله: « كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ » [الصف: 4]. وهذه أول بشارات النصر التي تجعل من هذا الشهر الكريم مفتاحا للتمكين لدين الله في الأرض.
دور أهل الحق في الأرض (وأنت فيهم)
جاء رمضان وهو فرصة كبيرة؛ حيث ينصرف أغلب الناس عن سماع الباطل، ويقبلون على الحق إقبالاً عظيمًا، وهذا يضع على عاتق أهل الحق مسئولية كبيرة تجاه النهوض بالأمة في هذا الشهر الكريم، ولقد ظن البعض أن العمل السياسي فقط هو الأساس في هذه المرحلة، فترك أهل الثغور ثغورهم، وانشغل العُبَّادُ عن عباداتهم وطلاب العلم عن معلميهم « فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ » [التوبة: 122]؛ إن لأهل الحق دورًا كبيرًا في هذه الأرض لا يقوم به غيرهم؛ إنهم يحولون بين قومهم وبين غضب ربهم؛ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: « وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ » [الأنفال: 33].
ثم إن دعاءهم وعباداتهم لها شأن عظيم عند الله تبارك وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم». [النسائي 3178 وصححه الألباني] الناس يحسبونهم ضعفاء وهم على الحقيقة أقوياء؛ فصاحب الإخلاص والصلاة والدعاء هو من أقوى الناس وأفضلهم، فاستحق بذلك أن يكون سببًا لنصر الأمة كلها.
فلا تظن أنك إذا شغلت نفسك بالعبادة في هذا الشهر قد قصرت في حق بلدك أو دينك، أبدًا بل إن الجميع محتاج إلى دعائك وصلاتك ليرفع الله عنهم ما هم فيه أولاً، ثم ليقتدوا بك ويهتدوا، فكلنا على ثغر من ثغور الإسلام، قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد، وما ضرب يومًا من الدهر بسيف. [تفسير ابن كثير 3/390].
فينبغي لنا أن نراجع مواقفنا، وأن نعود إلى ثغورنا، ولا ننشغل عن دورنا الأساس في الحياة، ونذهب وراء كل ناعق فنضيع وتختل بين أيدينا موازين القوى.
مفتاح باب التمكين إظهار شعائر الدين
إن إظهار شعائر الإسلام له قدر عظيم، وبخاصة في مثل هذه الأيام التي يراقب الناس فيها تحركات أهل الدين ويرصدونها، وإظهار العبادة أمر شرعي مقرر بالكتاب والسنة؛ ففي شأن الصدقات يقول تعالى: « إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ » [البقرة: 271].
قال ابن كثير: «إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة».
وقال السعدي: «فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه، فهو أفضل من الإسرار».
وقال في الجلالين: «أما صدقة الفرض فالأفضل إظهارها ليُقتَدى به ولئلا يُتَّهَم».
وأما الصلاة فإن كانت فريضة فهي علانية، وفي جماعة، وجهرًا بل ولها أذان وإقامة، وفضلها علانيتها في جماعة معروف مشهور، وإن كانت نافلة فالإسرار بها أفضل، ولذلك فهي في البيت أفضل منها في المسجد.
وكذلك الحج وشعائره، وعلى العموم يقول ربنا تبارك وتعالى: « وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » [فصلت: 33]. فعلى المسلم أن يعمل ثم يسجل كل نجاحاته باسم الإسلام فهو ناجح ليس لأنه ذكي، ولكن لأنه مسلم دينه يأمره بهذا، فيكون بذلك أحسن الناس قولاً وأعظمهم أجرًا.
ويترتب على فعله هذا آثار عظيمة فلا يُتَّهَم أهل الدين بأنهم يقولون ما لا يفعلون، وتتحول كلمة الحق إلى واقع يُحتذى «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ» [مسلم 1773].
كي لا تكون دولة بين.. (الأتقياء).. منكم
تبسمك في وجه أخيك صدقة تذهب نار الظنون، والهدية تذهب وحر الصدر، وإفشاء السلام سلاح مضاد لأكاذيب الإعلام، والكل جند من جنود الله، فلا بد من توسيع دائرة الاهتمام، وإدخال كل محب ومتعاطف مع الدعوة داخل هذه الدائرة لتزداد كل يوم، وهكذا هو أمر الإيمان كما قال هرقل لأبي سفيان بعدما سأله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم يزيدون، فقال: «وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم» [البخاري 7].
عسى الله أن يأتي بالفتح
طوابير النفاق وأرتال الشبهات، موجات عالية من المثبطات وكلاليب الفتن الخطافة للقلوب الضعيفة، هذا بعضٌ مما نواجهه، ولا نجاة إلا بأخذِ الزادِ الإيماني الشافي « وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى » [البقرة: 197]، ولزومِ جماعةِ المسلمين.. - فمن شذ شذََّ في النار - واتباعِ سبيلِ المؤمنين والوقوفِ عند أقوال العلماءِ الربانيين، والعملِ في سبيل الله؛ فمن لم يعمل صار معمولاً لغيره من أهل الباطل، وإن أعلن أهل الباطل الحرب على منهجك ودينك، ثم جاءوا من كل حدبٍ ينسلون، فأعلن أنت العبادة الخالصة لله في كل أحوالك وأعمالك، كي يراك الناس فيقتدوا بك ويعلموا أن من ورائك دينًا عظيمًا متمثلاً فيك وفي أفعالك وأقوالك، أظهر شرائع الدين وشعائره، جدد النية ليصبح كل عملك خالصًا لله.. إنه إعلان العبادة لتضمن بذلك الكفاية « وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ » [النساء: 90]، والحماية « فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ » [البقرة: 137]، والتأييد « وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ » [الحج: 40]، أما البقية فهي يسيرة ميسرة بإذن الله، وكل الذي فوق التراب تراب.
والحمد لله رب العالمين.
http://www.altawhed.com/Detail.asp?InNewsItemID=397087